يكون قراء ومتتبعي جريدتي خميسة.ما، و “le12.ma” عربية طيلة الشهر الفضيل على موعد يومي مع حلقات “مول الحانوت” يكتبها تاجر القرب الطيب آيت باها، تكشف خبايا وأسرار علاقة “مول الحانوت” بالعابرين والجيران و كناش الكريدي” والثقل الضريبي… إلى جانب حكايات مع بيع حليب رمضان و”قوام الحريرة” ومحنة قرار الإغلاق الليلي للعام الثاني على التوالي.
إليكم الحلقة (12)
حَــلّ بالمدينة قادما إليها من تمازيـرت، ليُصارع من أجل البقاء، فتَـمّ له ما كان يَرجو، مع أنّه ظـلّ بينهما بلا مـأوى، كضـالٍّ ما أتَـمّ لحدّ اليوم رحلة المَـسِيــــــــر !
لَو كان مول الحانوت يَتعامل مع الأحداث الجارية حَوَالَيه بحجم المقاس الذي وَجب أن يكون عليه بفضل مؤهّلاته وقدراته، لَمَا استطاع أحدٌ تَقزيمه أو الحَطّ من قيمته الإعتباريّة في مجتمع ككُلّ المجتمعات، يكفي فيها للحفاظ على كرامة الرّموز، أن يكون الرّمز نفسه واثقا من مصداقيّة رمزيّته وصمودها بصمود القُدوَة والمِثال !!
كباقي شباب القرية لم يكن محمّد يستفيق من الرّاحة بعد ليلة شاقّة ومتعبة، حتّى يعود مجددّا إلى الحقل، ليشُقّ بعَتلته الطّريق أمام مياه السّاقية، كمَثَل نحّاث يُبرِزُ بعناية فائقة جماليّة تجاعيد الزّمن على وجه تمثالِ شيخٍ عابس. كان بعمله هذا يضاهي ساحرا يبعث الحياة في بُقعة من التّراب، لكي تستمرّ بين الفدادين المجاورة موردا للرّزق، ومعيلا لا يخبو، ما اخشَوْشَنَت راحتا اليَدين، حتّى لتكاد تنسلّ من بين قبضتَيه عصا الفأس، ما لم يبادر إلى التّفل فيهما. شأنه في ذلك كشأن جيلٍ وُلد من رحم المعاناة وفي فمه مغرفة من خشب. جيلٌ تغذّى جسمُه على محاصيل أرضه المؤرقة، ونَمَت عضلاته من حليب ثَدي، ولُقَمِ قُوتٍ ألانَ صعوبةَ هضمِها، لعابُ أمّ تمضغُها لتُلطّفَها طعاما يُناسب رَضيعها. ولمّا أن صار محمّد بالبدن المؤهّل للصّمود في بيئته، دار في فلك الطّبيعة، يعيش ليأكل تارةً، وتارةً أخرى يأكل ليعيش. فقد كانت الظّروف بقساوتها المُحبَكة كفيلة ليستمرّ الحال على نفس المنوال، لو لا أن طفت على سطح حلقات النّقاش الشّبابيّة بعض الأخبار القادمة من المدن، حيث تكابد زُمرة من شباب المنطقة الأمَرّين في سبيل ابتكار مورد رزق ثانويّ، قُدّرَ له مع توالي الأعوام والسّنون أن يصبح الكفيل الوحيد لإعالة المنطقة برُمّتها. وبناءً على ما كان يروج، وما بَرّرَتهُ الأحداث المتلاحقة فيما بعد، حَزَم محمّد سرابيله في كيس ثوب بالي، ثمّ إنطلق كالسّهم ليصيب حظّه من التّرف المزعوم. هناك التحق بكوكبة الشّباب التّائهة بين دروب المدينة، إلى أن استقرّ به المقام خلف كونتوار من خشب، لا يختلف بشكل من الأشكال عن مغرفة الخشب وعصا العتلة، فقد شاءَت الأقدار أن يتطبّع هوّ الآخر على ما دَأُبت أمّه على صَنيعه. يمضغ المأكل ويمزجه بلعابه قبل إرساله إلى تمازيرت، بل وشَقّ الجداويل أيضا، ولكن من حانوته هاته المرّة، ليسكب فيها مصدر حياة آخر، دون شكّ لن يبلغ الفدّان، ولكن صار بديلا لرُزم الجَزر والبَصل والدّرة، التي كانت الشّيء الوحيد الذي تعيش عليه السّاكنة!! وتلك قصّة أخرى، وللقصّة بقيّة…
أكثرُ من ثلاثة عقود قَضيتُها ممارسا لمهنة التّجارة في موادّ “الْغْـدَايْدْ”، حَملتُ إبّان أكثر من ثُلثَيها لواء “مول الحانوت” بكافّة أشكال النّضال المشروعة، وخاصّةً الأدبيّ منها، فلم أكن أسمع دَبيب النّملة في أوائلها، ما عدا بعض الهَمز واللمز أحيانا هنا أو هناك ، إمّا مقرونا بالمنعرجات السّياسيّة أو بمناسبات الحلوى والشّاي على إيقاع أهازيج الأحواش، فكان ما مضى رغم صمت القبور الذي كان سائدا، يشهدُ لقوم ذاك الزّمن بجودة الإنصات، ورجالاتُه كان يُعَوّل عليهم لكسر الجمود والجلمود حِكمةً وفِعلا، عكس الضّجيج الذي عَمّ القطاع فجأة مع ظهور فُرسان المواقع الإفتراضيّة مؤخّرا، بلا فائدة تُذكر، إلّا مَن رحم ربّك، والإستثناءُ وارد طبعا للأمانة في كلتا الحقبتَين، وهُم قِلّة قليلة وغَيضٌ من فَيض، جُزءٌ غُرّرَ بهم حتَى لا يَفضَل عالقا بأذهان الذّاكرة من إنجازاتهم، إلّا ما دُفعوا لإقترافه من أخطاء، مُجملها غير مقصود، والجُزء الآخر جُزّ بهم في خلّاط الإحباط، ليُعصَروا عَصرا، نهارا جهارا، مع سوائل الذّل والمَهانة!!
مؤخّرا حدّدت الحكومة لائحةً أوّليةً للمهن الحرّة، التي سيشملها التّأمين الإجباري عن المرض، في إطار توجّه يرمي لتوفير تغطيّة صحّيّة ونظام للمعاشات لفائدة المهنيّين والعُمّال المستقلّين والأشخاص غير الأجراء، يُقدَّر عددهم بحوالي عشرة ملايين مغربيّ ومغربيّة (!!)
السّؤال المطروح هوّ ما قيمة “ثُلاثِي” الأكثر تمثيليّة ومعها العُلب المهنيّة عفوا الغُرف المهنيّة في مفاوضات الحكومة، التي عَرّت نتائجُها على فَشلٍ وإفشالٍ يتمثّلان في إقصاء مول الحانوت من التّغطية الصّحّيّة ؟
بالنّهاية تبقى أكبر شماتة تعرّضَ لها جمهور مّالين الحوانت الواسع العَريض، لا من قِبَل الاكثر تمثيليّة ولا أوسطها ولا أضعفها أيضا، بصَرف النّظر عن المُعَلّبة منها، أنّهم تُرِكوا في مواجهة تقرير تَصنيفهم مُذبذبين بين العشوائيّة والتّقنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء !!