يكون قراء ومتتبعي جريدتي خميسة.ما، و “le12.ma” عربية طيلة الشهر الفضيل على موعد يومي مع حلقات “مول الحانوت” يكتبها تاجر القرب الطيب آيت باها، تكشف خبايا وأسرار علاقة “مول الحانوت” بالعابرين والجيران و كناش الكريدي” والثقل الضريبي… إلى جانب حكايات مع بيع حليب رمضان و”قوام الحريرة” ومحنة قرار الإغلاق الليلي للعام الثاني على التوالي.
إليكم الحلقة (11)
على مدى سنوات طويلة ونحن نردّد أو نسمعُ بمثلة “حرفة بُوك لا يغلبُوك” دون أن نتفحّص تاريخ صلاحيّتها ومدى تطابق محتواها المعنوي مع ظروف السّاعة وتطوّرات نمَط العيش، حفاظا على سلامة الفكر من كلّ تسمّم مُحتمل، سيّما وأنّ المكوّنات التي بُنيت منها، والمقادير التي نَجمت عنها كوَصفة مُجرّبة حيناً من الدّهر كان مشهودا، لم يعُد لها من الأصل نفس المفعول، كما تمخّضت من الأساس على طعمها تعديلات جَوهريّة.
“ذاك الغُصن، من تلك الشّجرة”، و”ذاك الشّبل، من ذاك الأسد” مثالان يحيلان على ربط النّتيجة بالأصل دون تحديد وسيلة البلوغ، وبلا تأثير على حريّة اتخاذ القرارات المصيريّة، بينما مثلتُنا نحن -حرفة بُوك لايغلبُوك- تشير إلى الوجهة، بل وتحدّد الغاية والوسيلة معا، وتُعَرّف المسالك نَحوها بالتّشوير والتّوجيه “الإجباريّان” فيما يشبه التّخطيط المُسبَق لمستقبل شخص خارج إرادته، أو بمعنى أدقّ إلى أبعَد تقدير، نَجدُها على الطّرف الأول تعكس بملامح التّخيير مُزَيّنَةً بالتّنويه صُورة المُستَقِلّ في رسم أهدافه، بينما على الطّرف الثّاني، مع نجاعة المثلة نسبيّا، إلا أنّنا نجدها محفوفة بكثير من التّسيير والتّحكّم !!
يَروج ضمن أدبيّات الأمنّ أنّ وقوع الجريمة هوّ عنوان على الفشل، رغم وضع اليَد لاحقا على مُرتكبيها، لأنّ الأهمّ هوّ ما يُصطلح عليه بالأمن الوقائي، الذي يتنبّأ بما يمكن أن يحدث، قبل أن تقَع الفاجعة، وعلى اعتبار أن للجريمة وجوه عديدة، فلا ينبغي تحميل مسؤوليّة كلّ الفشل الجاثم اليوم على قطاع التجارة لآبائنا، حينما اختاروا في سَكرة نجاح خادع، أن يرسموا لنا على رمال شُطآنهم نفس مساراتهم. وَقتَها كان اقتصاد المغرب يَحبو على أربعة، كطفل كُلّما بَكى، وَجد آباءَنا بفطرة حُبّ البكر في حالة طوارئ، إلى درجة أنّ التّجارة ومن شدّة الغِيرة، كانت لدى أمّهاتنا كضَرّة شَغلت الزّوج عن أحلام البَيت الأوّل !!
جديرٌ بالذّكر أنّ أيّ مول الحانوت أو أيّ حرفيّ آخر خَضع للتّجربة وفق معايير المثلة المغربيّة، يمكن تصنيفه في خانة العاشق الولهان، الذي عندما أفاق من لَمسة الجنون بعد انقضاء فترة العسل، وجدَ نفسه مسؤولا كأيّ ربّ أسرة عن ذرّية وما تفَرّع عن العائلة، حتّى كاد أن يكون للحدث نفس وَقعِ الصّدمة عند ارتكاب جريمة عن سابق إصرار وترصّد. فليس بالأمر السّهل أن يكتشف المرء بعد سنوات من الإبحار في قوافي المديح، أنّ عواصف الهجاء تحيط بأشرعته الهشّة وسط دواوين الحكومات المتعاقبة، حيث يتسلّى قراصنة مُهندمين بتدريب البُوم على جَلب الحظّ في مشاهد تمويه كاريكاتيريّة، لكي لا تكتمل في الأذهان الصّورة النّموذجيّة للقُرصان الشّرير برجله الخشبيّة وببّغائه الثّرثار !!
عندما كان الخلف يُخرج من قِبّ جلبابه السّحري أرانبه الخادعة، كان السّلف تحت مؤثرات الإغراء يوقّع التزامات مصيريّة بضمان تموين الأحياء الشعبيّة، لأن مول الحانوت على خلاف باقي الأولياء، لم يكتف بتَحمّل نفقة الخارجين من صُلبه فقط، بل تعدّاهم حينما حملته الحماسة الزائدة إلى إعالة أحياء سكنيّة مكتظة بعُمّارها في المدينة، وقرى يُرثى لحالها خاويةً على عروشها.
مول الحانوت الذي عاش يتعقّب وَهمَ الكنز بخريطة المثلة الشعبيّة، انطلت عليه الحيلة، مثلما انساق بَطل رواية “جزيرة الكنز” وراء سراب السّرد في تقمّص دور المتقصّي، معتمدا على فريق من البَحّارة مجملهم في الأصل قراصنة احترفوا السّطو. مول الحانوت الذي لم تنصفه أيّ جهة، ولو من باب رفع معنويّاته في تاريخ المغرب من خلال قصّة أو رواية تحفظ كرامته بين رفوف تراثنا الثّقافي، وحتّى لا نقول دراسة، لو حدث الأمر في واقعٍ أكثر منطقا، حتى نعثر عليها من بين أولويّات الغرف المهنيّة، هو نفسه مول الحانوت الذي تكالبت عليه صُنوفٌ من نكت الهَزل، لتُلبسه جبّة الشّحيح البخيل، مع أنّه عاش لغيره أكثرَ بكثيرٍ ممّا عاش لنفسه!!
“حرفة بُوك لايغلبُوك” خريطةُ طريق تفتّقت عن عبقريّة رجل عصامي من زمن القَرابين، رَمت به الأقدار في ظروف استثنائية بصعوباتها زمن البناء، فأعطَت الوَصفة فوق نار صارمة أُكلَها. بيدَ أنّ لكلّ حقبة مُخرجاتها. ولأنّ الشّيء إذا زاد عن حدّه، انقلب إلى ضدّه، تحوّلت المثلة إلى وصمة عار بارز على الجَبين، بعد أن كانت رافعة أساسيّة في مقدّمة أوراش التّنمية، لأنّها ببساطة شديدة وللأسف الشّديد، كانت خارج تصاميم التّعمير التّجاري!!
الطيب آيت أباه : تاجر