يكون قراء ومتتبعي جريدتي خميسة.ma، و “le12.ma” عربية طيلة الشهر الفضيل على موعد يومي مع حلقات “مول الحانوت” يكتبها تاجر القرب الطيب آيت باها، تكشف خبايا وأسرار علاقة “مول الحانوت” بالعابرين والجيران و كناش الكريدي” والثقل الضريبي..إلى جانب حكايات مع بيع حليب رمضان و ”قوام الحريرة” ومحنة قرار الإغلاق الليلي للعام الثاني على التوالي.
إليكم الحلقة (15)
طِيلة مُقامي بالقرية السيّاحية إيمي وَادّار، وعلى مدار تَنقّلي من حين إلى آخر صَوب مدينة أكادير تجاوبا مع رغبة الأولاد في المزيد من الترفيه على النفس، ورغم أنني حاولتُ جاهدا الإنفصال عن كلّ مهامي النّضاليّة، إلا أن جيناتٍ بدواخلي تأبى دائما إلا أن تَنتصر، مع أنّني حَقنتُها بالكثير من القمع المعنوي، لأتفاجأ بين الفينة والأخرى بهَوَى النفس، تَنساقُ لمجريات الأحداث التي تُطَوِّقُني، فيَنسَلُّ من الزّمام ماردُ مول الحانوت. الماردُ الذي إستطابَ المُقام في جسدٍ، لفَظتهُ الأقدار نحو مصيرٍ، لم يكن قَطُّ في الحُسبان
على طول مساري التجاري الذي فاقَ الرُّبع قرنٍ من التّمرّد ضد أحوال مول الحانوت، كمتشردٍ منبوذ يجوبُ دروب الحيّ الذي ترعرعَ فيه، ولا أحدَ يُبالي بحِكَمٍ يَا مَا تَلفَّظ بها حَمقى، يقتاتون من قمامة فكرٍ بلا قيود، مُستَوحىً مِن عُسر التّجارب. هكذا حَلَلتُ عائدا من حُلمٍ لم يتحقّق إلى قطاعٍ كُنتُ بالكاد مِن المَشمولين بكَرَمه
مُرغما لا بطلا بادِىءَ ذي بَدءٍ، حطَطتُ عنّي أسْفَارَ التّحصيل، لأقبِض بِيَدٍ على مشعل المستحيل، وبالأخرى على القلم الخَليل. مُبارحا حُلماً يَا مَا تصوّرتُ فيه شخصي خارج حدود الجغرافيا، مُنطلقا كالسّهم في فضاء المعرفة والعلم والإبتكار، مُنسَلا من قوس مدرسة عمومية، خوَّلَتني بها قُدراتي الإبحار في شعبة العلوم التجريبيّة، إلى أَن صُعِقَ الوالد بفقدان عمّي، كمَن بُتِرت يدُه اليُمنى في ساحة الوَغى، ولِهَول ما أفجَع الوالد خوفاً على مصير تجارته بدون عَمّي، سيّما وأنها المُعيلُ الوحيد لأسرة كبيرة بحجم كِبَرِ منزلته بين أعيان منطقة طاطا أصلا، وبين أقرانه بجهة الرباط مِهَنِيّاً، خلعتُ رداءَ طالبِ علمٍ على مستوىً لا بأس به من التّمكين، ثم إرتميتُ في أحضان المغامرة كمهاجر سرّي مخدوع، عندما غادرتُ البكالوريا بآفاقها المفتوحة آنذاك، كبَيتِ نارٍ حاميّة، تقدف بالرصاص في كل حدبٍ وصَوب
قافزا تحت تأثير مغريات زائلة من حُلمِ دِراسة مِيكَانيك السُّفن بإيطاليا نحو مجهول مدفون في جزيرة وَهمية، عَثرتُ على نفسي بعد مرور سنوات طوال، وأنا على نفس المنوال، أحمِل هَمّ عشيرة من الناس، أوْجَدتني الاقدار بينهم كقرصانٍ أبلَه، يَمخُر بقشّة أملٍ عُبابَ الفساد.
هكذا هو الحال الذي صِرتُ عليه، لدرجة أنني أتَطايَر دون “وَعيٍ” كالزّيت من المقلاة، كلما إرتفعَت درجاتُ مزاجي، فلَربما أحمِل بين أضلُعي نَفسا رابعةً غيرَ المُطمئنة واللوّامة والأمّارة، ومِن تِلكُمُ الباب على الدّوامِ تأتيني الرياح بما لا أشتهي، فلَم أقوى لحدّ الساعة على سَكْرِها، كَثَمِلٍ لَعِبَت المروءة والإقدام بعقله حَدَّ رؤيةِ وُحوش الفساد قُمَّلاً.
خُلاصة القول أنني أفشل فشلا دريعا، مهما حاولتُ تعطيلَ مِيكَانِيزمَات طبائعي، شفقةً بعيونٍ تحسدُ ما لا أملكُ عَليه سُلطةً، ولا أشُدُّ على فَرامِله ! كما حَصل معي مؤخرا عندما نَزلتُ بديار أهل سوس أبغي الرّاحة، فأكتشفتُ أنني أقيم بمحمِيّة للخنازير، ظاهِرها قريةٌ سيّاحيّة تحبو نحو النّموّ والإزدهار، وباطنها جنينٌ مُهدّد بالتّشوهات، تتناسلُ على طولِ حَبلِه السُّرّي جراثيمُ سوءِ التّسيير، ما جعل أكادير تستحق الشكر من طفلتي، عندما راقَتها حديقة التماسيح وبعدها وادي الطيور ثم فرجةٌ مفتوحة على مشاهد لِوُفودٍ من قطعان الحلُّوف، وهي تزورنا كل ليلةٍ بحثا عن الطعام في القمامة، مُحاطَةً بكلاب ضالة، تسهر على مرافقتها بالنّباح جيئَةً وذهابا.
تمّة والمكانُ قريةٌ سياحيةٌ، قِيل لي مِن بين ما قِيل، بناءً على تحريات وإستطلاعات للرأي، إستَقيتُها مِن عيّنة مِن السّاكنة والمصطافين، أنّ فِرَقا مِن السّياح الأجانب، تمنحُ هاته الكلاب المحظوظة عطفا ورعايةً منها علاجٌ وتلقيح، لم يَحصل أن صادفتُ مثله حتى على مستوى صيدلية، من المفروض أن تَعرِض لكثافةٍ سَكنيّة، جَذَبَتها جَماليّةُ المنطقة خدماتٍ بالمقابل ياحَسرة ! فما بالُكم بمستوصفٍ يُسعَف فيه مواطنٌ أو أجنبيّ لَسَعَته عقربٌ في عزّ موجةِ حرٍّ، أقصى ما واجهناهُ في خِضَمّها، مِحنةُ عَطشٍ بعد جفاف الصنابير من المياه لمدة 24 ساعة بالتمام والكمال.
مِن هنا كانت لنا عودةٌ بالعرض البطيء المُمِلّ عَكس إتجاهِ تَقدّم الحضارات إلى عصورِ ما قبل إختراع مستلزمات المرافق الصّحية، والفضل هنا يرجع دون جدال للمَعنيّين بالإشراف على شؤون قرية سيّاحيّة، إستغنوا عن القيام بالواجب، لَمّا فَوَّضوا أمرَ نظافتها لشركةٍ، قِيلَ لِي أنّ مالكَها لا يتهاون مشكورا في القيام بالمُستطاع وِفقَ أجندة تجاريّة، طبعا تعكس نتائجُها بالمَلموس قاعدة “لِكلّ شيء ثمنُه”، وليس ذلك بعيبٍ ما فتِئ كلّ مستثمر، كيفما كانت عقيدته، يدعو آناء الليل وأطراف النهار، أن يُديم الرّبّ عليه نعمة “الغفلة ما بين البَايع والشّاري”، هذا دون الخوض في جدالات سيّاسيّة عقيمة، لا يسمح المجالُ لإثارتها !
ليس من شِيمنا كمُنحَدِرين من الأصول ذاتِها، أن ندخل في صِدامٍ مع أناسٍ إستطَبنا المُقام بينهم، ومهما إستباحَتِ الشياطين عِزّة قومٍ هُم أهلُ كرمٍ ونَخوة، للنّفخ في جَمرات سوءِ فهمٍ بمختلف أحجامه، فلن يفوتنا أن نشكر سي احمد صاحب الدّار العامرة، التي آوَتنا رغم قِصر ذات اليد بالمقارنة مع أسعار الكراء الخارجة عن دائرة مستطاعنا، ومِن خلال صَدَاقةٍ صَادِقةٍ لا تُقَدر بثمن، وترجمةً لمشاعرنا إتجاه أهل سوس قاطبة، لا بدّ أن نحَيّي عاليا كلّ مُستثمر ساهم بِلَبنَةِ نماءٍ في قريةِ إيمي وَادّار، وعلى رأسهم مالك الشركة القائم على شؤون النظافة في منطقةٍ، يشهد فيها العارفون أن الرّجل بمثابة مُولِّدٍ للجاذبيّة لا يَنبُض
للأمانة، فالناس هنا لا يذكرون الخنزير بسوء، لأنه تَطبّع على ما تعَوَّدَ عليه، بعد أن إقتحَمَت مجالَ وَحشِيّتِه آلاتُ التدمير والبناء، وطالَتها برامج تعمير هناك من وَصفها بالعرجاء ! حتى أن بقال الحيّ قد أكّد لي أنه بعد فراغ القرية، عند إنقضاء فصل الصيف، ولَكأنّه “سبعةُ أيامِ المِشمِش”، وبالتالي خُلُوّ القمامة من بقايا طعام الزّوار المُتَنوِّع، تصِلُه وفود الخنازير إلى غاية عَتبَة دكانه، فيَهَبُها من الخبز اليابس والحافي، ما تجودُ به الظروف، في عملية ثانوية لتسهيلات حانُوتِيّة خارج هامش كُنّاش الكريدي.
بشيء من المجاز المتواضع هكذا هو حال مول الحانوت، بالرغم من تلذّذ أعداء الإصلاح بقتله عضوا عضوا، تلبثُ في صُلبِه خِصلةُ الوفاء شَغّالَةً، وتستمرُ في فَرزِ مُنبّهات الشّهامة، حتى يظنون أنّه فشل ونَفَق، فيعودُ من رمادِ المَوت حيّاً، يُزاول مهامّه بِنُبل أفضَل مِن ذِي قَبل. فَهو قطعا لن يموتَ إلّا بأجلٍ مُسمّى، وإلى حين إكرامِه بالدّفن المُستحَق.
الطيب آيت أباه : تاجر